رحلة حياة

رحلة حياة

بالرغم من أن الحياة قصيرة حرفياً؛ والسنوات أصبحت تمُر مر السحاب سريعًا دون أن ندري أو نشعر؛ إلا أنها وعلى قِصرها فهي طويلة مُملّة ومليئة بالإحباطات والآلام، قليلٌ فيها الأفراح، أمّا عن الراحة، فلا وجود لها مُطلقاً، إلا إذا تحدثنا عن راحة القُرب من الله، وترك ما يغضبه والابتعاد عن المُتشابه والمُختلف عليه من الأمور، فإن هذا أجمل ما في الحياة، أن تشعر أن الله يُحبك ويُحيطك برعايتهِ؛ ويُصيبك بالهم والحزن كلما ابتعدت عنه وعن منهجه، ثم يُنعم عليك بتوبة ورجوع وأوبة إليه؛ بعد ذلك ستشعر بالراحة لأنك تركت ما تُحب وما ترغب فيهِ ابتغاءً لمرضاة وجه الله وتقرُباً إليهِ.

وفي الحديث القُدسي الشريف عن النبي ﷺ: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ﴾.

وفي الحديث الشريف يقول الرسول الكريم ﷺ (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ).

وهذا الحديث العظيم قد اشتمل على ثلاث جُمَل:
الأولى قوله ﷺ: ((لن تدع شيئًا))، وهذا لفظ عامٌّ يشمل كل شيء يتركه الإنسان ابتغاءَ وجه الله تعالى.
الثانية قوله ﷺ: ((لله عزَّ وجلَّ))، هذه الجملة بَيَّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن التَّرْك لا بد أن يكون ابتغاءَ مرضاة الله لا خوفًا مِن سُلْطان، أو حَيَاء من إنسان، أو عدم القدرة على التمكُّن منه، أو غير ذلك.
الثالثة قوله ﷺ: ((أبْدله اللهُ خيرًا منه))، وهذه الجملة فيها بيانٌ للجزاء الذي يناله مَن قام بذلك الشرط؛ وهو تعويض الله للتارك خيرًا وأفضل مما ترك، والعوض مِن الله قد يكون مِن جنس المتروك، أو مِن غير جنسه، ومنه الأُنس بالله عز وجل، ومحبَّته، وطُمأنينة القلب، وانشراح الصدر، ويكون في الدنيا والآخرة؛ كما عَلَّم اللهُ المؤمِنَ أن يدعو: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201].

ولذلك فإنك إن تركت ما ترغب بسبب خوفك من الناس أو إرضاءً لأحد أو لأي سبب آخر غير رضوان الله؛ فأنت الخاسر؛ أما إذا تركته لله فسوف يُبدلك الله بما هو أصلح وأفضل لك.
فلنُجدد نوايانا؛ ونجعل كل أعمالنا خالصة لوجه الله.
ولا تحزن من الفقد؛ فبعد كل مِحنة مِنحة؛ ربما الفقد هذا بداية لامتلاك ما هو أفضل وأجمل وأصلح.

أما عن سرك أو ما بداخلك فلا تشكوه إلا لربك ولا تحدث به أحد، فلن يُقدّر مشاعرك أحد، ولن يشعُر بك إلا خالقك، وكما قال الإمام علي رضي الله عنه: (سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره)

وابق دائما أمام باب الكريم؛ فهو من سيجبر كسرك ويعينك علي تحمل الصعاب.

وفي هذا قال حسان بن ثابت:
ببابك لن أغادره ** ولن أسعي إلي غيرك
سأنسج بالرضا ثوبي ** وأشرف أنني عبدك
وأهتف في جبين الصبح ** حين يُقال من ربك
إلهي خالق الأكوان ** لا أسعي إلي غيرك
إلهي فالق الإصباح ** أشرف أنني عبدك


واجعل بينك وما بين ربك بستان عامر ولو غضب كل الخلق فلا بأس؛ ما دُمت ترضى الله

وكما قالت رابعة العدوية:
فليتك تحلو والحياة مريرة ** وليتك ترضي والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ** وكل الذي فوق التراب تراب


وختاما أذكر ما قاله الإمام ابن القيم في تلخيص أحوالنا في الدنيا سعياً إلي الآخرة.
يقول ابن القيم:
وقد أجمع عُقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم.
وأن من آثر الراحة فاتته الراحة.
وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة.
فلا فرحة لمن لا هم له.
ولا لذة لمن لا صبر له.
ولا نعيم لمن لا شقاء له.
ولا راحة لمن لا تعب له.
بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا.
وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد.
وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة.
وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلي كان تعب البدن وحظه من الراحة أقل.
أحمد صالح

مدون مصري .. أوفر لك معلومات حول التدوين و HTML و CSS و JS ونصائح وحيل وأدوات وقوالب بلوجر لإعداد موقعك وغير ذلك الكثير.

إرسال تعليق

أحدث أقدم